وفي سياق الحراك الطلابي هذا، يمكن تحليل مطالب ومنطلقات المحتجين، والجبهة المعادية لهم، من منظور اقتصادي، بما في ذلك دلالات الاحتجاج، والمزج بين السياقات المحلية والدولية، وتوجهات المحتجين، الطبقية والسياسية.
ضمن مشهد الحراك الطلابي المناهض لحرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، تركز شعارات المحتجين في الجامعات على مقاطعة المؤسسات الأكاديمية لإسرائيل، وإنهاء التعاون في مجالي الاستثمارات والأبحاث، ويبدو الحراك مشهد صراع، معبرا عن تعارض المصالح بين ما يمكن اعتباره جبهتين: الأولى مواطنون من دول عدة، يستجيبون لدعوة مجموعات مختلفة، يمثلون تيارا ضد الحرب، ويجسد الضمير الإنساني، وينطلق من مفهوم العدالة والتضامن. والجبهة الثانية، حلف سياسي من قادة الولايات المتحدة والسبعة الكبار، مع تكتلات اقتصادية، من شركات متعددة القوميات، بعضها يستثمر في القطاع العسكري، ومؤسسات إعلام، يدعمون تاريخيا إسرائيل كمشروع استعماري، يخدم مصالحهم، ودرجة الترابط بينهم كبيرة ومؤسسية.
أولا: على صعيد دولي، يعد الحراك جزءا من تبلور حركة اجتماعية، تنتقد النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة، التي تدعم إسرائيل، وتعمل على ضمان تفوقها العسكري في المنطقة، عبر مساعدات سنوية تقدر بـ3.3 مليارات دولار، وأخرى ممتدة، تضخ واشنطن 38 مليار دولار كمساعدات عسكرية، لمدة 10 سنوات، في المدة من 2018 إلى 2028 بموجب مذكرة تفاهم، ومرر الكونغرس حزمة إضافية خلال الحرب تقدر بـ14 مليار دولار، بجانب توريد السلاح بنسبة 68%، بينما ألمانيا بنسبة 30% من واردات الاحتلال.
وحسب بيانات معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام، وصل الإنفاق العسكري لإسرائيل 27.5 مليار دولار في عام 2023 وبنسبة ارتفاع 24%، ما أسهم في زيادة الديون إلى 43 مليار دولار. ويظهر الارتفاع في النفقات، ميلاً للعسكرة تدعمه الولايات المتحدة، ويلقى معارضة على صعيد عالمي، ورفضا داخليا، خاصة بين الطلاب.
في كتابها، العولمة والحركات الاجتماعية، تقول فالنتين مقدم، إن الحركات الاحتجاجية الدولية، تحد للمعتاد، وتقف على النقيض من نظام يشكل توليفة من المشروعات الإمبريالية والليبرالية الجديدة، ينتج عالما خطيرا، يزيد عوامل القلق والمخاوف، بما فيها الجنوح للعسكرة، بينما تسعي الحركات الاجتماعية إلى عالم يتسم بالمساواة والعدالة.
ثانيا: ارتكز الاحتجاج على سلاح المقاطعة، الأداة التي طرحت عربياً كاستراتيجية رسمية، منذ عدوان 1967، وتراجعت مع موجات التطبيع، لتعود على صعيد شعبي في الدول العربية، وصولا إلى مرحلة ثالثة، تصبح فيها شعار وأداة ومطالب للحراك العالمي ضد الحرب على غزة 2023. وبعد عدوان 2008، أشارت نعومي كلاين، وهي ضمن الكتّاب المؤيدين للحراك الطلابي حاليا، لأهمية أن تكون المقاطعة هدفا للحركات العالمية لمواجهة الاحتلال، ذلك ضمن جدل حول تجربة مقاومة الفصل العنصري كنموذج ملهم، شهدته الجامعات خلال عقد الثمانينيات.
وأعادت “كلاين” طرح فكرة المقاطعة، معتبرة أن وقف حرب الإبادة ممكن، إذا تحققت أهداف ثلاثة: المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض عقوبات على إسرائيل، وهي ذاتها شعارات حركة BDS.
ثالثا: تتعدد أسباب وجذور ومكونات الحراك الطلابي المستجد، لكن يجتمع المحتجون على رفض السياسة الخارجية المنحازة لإسرائيل، بما في ذلك إنفاق ضرائب يدفعونها لدعم الحرب. ويعلن الطلاب رفضا لتعاون جامعاتهم مع إسرائيل أكاديميا، أو عبر صناديق استثمار يساهمون فيها برسوم دراسية بعضها مرتفع، هنا يتحدثون كمساهمين بدفع الضرائب والرسوم، وأن من حقهم تقرير أين ستذهب أموالهم. لكن بمنظور طبقي أيضا، لا تقتصر الاحتجاجات على طلاب أثرياء، من أبناء جامعات النخب، وإن كانت لعبت أدوار مبادرة، كما كولومبيا وييل وهارفارد، لكن يبقى التنوع الطبقي للمشاركين، سواء من حيث الموقع الاجتماعي، أو الانحياز الطبقي قائما.
سياسات النظام داخليا، تشعر فئات طلابية بالقلق، ومنها ما يختص بمجالات التعليم والعمل والرعاية الاجتماعية، ويتفاعل حراكهم مع قضايا محلية، منها مظاهر تسليع التعليم، ومشكلات القروض، وخفض موازنات الجامعات الحكومية والمدارس. وعلى صعيد سوق العمل، عاود في الفترة من إبريل 2023 وحتى 2024 معدل البطالة، الارتفاع إلى 9.3%. وحسب إحصائيات العمل، تزيد بين خريجي الجامعات في الفئة العمرية من 20 إلى 29 عاما، لتصل إلى 6.8%، كما يواصل التضخم الارتفاع وبلغ 3.6%، وتترك أسعار الفائدة تبعاتها على السوق، تتفاعل قضايا محلية مع رفض السياسة الخارجية، هكذا يبدو الحراك الطلابي حاليا، كما سنوات مضت.
سبق واحتج طلاب جامعة ييل على تمويل مركز شرطة الجامعة، واعتصم طلاب شيكاغو للمطالبة بوقف تمويل شرطة الحرم الجامعي، وهي واحدة من أكبر القوات الخاصة، بينما طالب المحتجون في جامعة هارفارد بسحب الاستثمارات من السجون.
يبدو المزج بين فكرة العدالة الاجتماعية وعدالة السياسات الخارجية، ورفض مظاهر التمييز والعنصرية، سمة أساسية للحراك. لذا، لم يكن مستغربا أن يطالب المحتجون في جامعة كولومبيا، بدعم سكان هارلم ذوي الدخل المنخفض، ضمن الاهتمام بأوضاع الملونين من أصل أفريقي، ومشاركة جماعات مناهضة التمييز ضمن مكونات الحركة الاجتماعية.
رابعا: يأتي الحراك الطلابي في سياق تكرار إضرابات ضخمة من حيث المشاركين فيها، وهي دالة على تململ قطاعات من الطبقة العاملة، شهدت الولايات المتحدة 33 إضرابا خلال 2023، شملت قطاعات الصناعة والخدمات، بمعدل كبير نسبيا، ضم إضرابين كبيرين، في قطاع السكك الحديد ومصانع للسيارات، والأخير خاطب المضربين مرشحي الرئاسة، بايدن وترامب.
هذا بجانب إضراب حوالي 75 ألفا من العاملين في القطاع الصحي، وُصف بالأكبر، بينما يتفاوض هذه الأيام موظفون في قطاع الطيران حول مطالبهم قبل أن يعلنوا الإضراب. ويبدو أن الطبقة العاملة تتجه نحو التنظيم والفاعلية بدرجة كبيرة، حيث ارتبطت أغلب الإضرابات بمشاركة وأنشطة نقابية، فئات عدة مؤهلة للاحتجاج في الولايات المتحدة، تتبادل الأثر وتتشارك أهدافها.
خامسا: تتمركز فئات المحتجين حول فكرة العدالة، وهي تضم جماعات تقدمية، وأحزاب اليسار، بجانب مجموعات قريبة من حركات نسوية وبيئية ومناهضين للتميز ضد الملونين، وأيضا تقدميين من الحزب الديمقراطي، فضلا عن حركات مساندة للفلسطينيين. وتحمل المجموعات المناهضة للحرب ملمحين: أولا توجهات ترتكز على الهوية، والرفض للتمييز على أساس اللون والعرق والدين، وبالتالي الدفاع عن “ضحايا الاضطهاد”. وثانيا التوجه الطبقي والاجتماعي المناهض للسياسات الليبرالية الجديدة، المنتجة للكوارث، وفى المقابل تطالب بالعدالة الاجتماعية، والمناخية والجندرية. واتصالا بذلك أيضا، لا يعد التحليل الثقافي، ومدخل الجيل، مفسرا وحيدا للاحتجاج، بل يمكن أن تكون تعميمات كما مفهوم ثورة الجيل مضللة، لأنه يصور أن هناك فئات عمرية تحتج ضد الحرب بوصفها شابة، وفئات تؤديها، من كبار السن. ومع الاعتبار لسمات نفسية ومعرفية، فإن ذلك لا يعنى أن الشباب يحتجون لأن المرحلة العمرية تحتم عليهم ذلك، كما أن مرتكزات الاحتجاج وأسبابه متنوعة، منها التوجهات السياسية والانتماء الاجتماعي، والموقع الطبقي، وفرص المعرفة، وإمكانيات الحركة، والنشاط.
سادسا: يصطف ضد الحراك جبهة من مجموعات مصالح، يمثلون يمينا متطرفا، نسيجه ملاك شركات كبرى، ومصنعو السلاح، ومؤسسات إعلامية، وجماعات اللوبي الصهيوني، وغالبية أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب. وهذه الطغمة تتهم الحراك الطلابي بالتطرف اليساري والفوضوية والعنف كمبررات لقمعه، في محاولة لإعادة إنتاج المكارثية، وأن حل الاتهام بمساندة الفلسطينيين والمقاومة “الإرهاب” بديلا عن دعم الاتحاد السوفييتي والشيوعية.
في السياق، لم يكن مستغربا، أن يرفع طلاب جامعة ييل شعار قسم شرطة ييل أو كو كلوكس كلان والجيش الإسرائيلي كلهم متشابهون في تذكير بالروابط بين هذا الحلف. وتكشف تصريحات كثير من أمناء الجامعات والممولين والمانحين، وقادة سياسيين، موقفا عنيفا من الاحتجاجات، ومحاولة التأثير في الرأي لمصلحة إسرائيل.
نشرت واشنطن بوست، تقريرا حول مخاطبات لعمدة نيويورك تطالبه بفض تجمعات الطلاب، بجانب حملات تحريض من وسائل إعلام يمينية، والتهديد بسحب التمويل من جانب رجال أعمال، غير مواجهات عنيفة. وخلال شهري إبريل ومايو، شهدت 130 جامعة أميركية معسكرات أو اعتصامات، وقبض على ما يقارب 3 آلاف طالب من 61 منها، بجانب الترهيب، وقرارات تأديبية للطلاب، ولأساتذة انحازوا للحق في التعبير.
وضمن تشريح طبقي للفئات المناوئة للاحتجاج، تأتى جماعات البيروقراطية التي تدير المؤسسات الأكاديمية، وهي ترس أساسي في مواجهة الطلاب. ولم تكن نعمت شفيق، رئيسة جامعة كولومبيا، التي استدعت الشرطة لفض اعتصام الطلاب، سوى مثال على توظيف الكفاءة الاقتصادية والإدارية، لمصلحة جبهة دعم الحرب، والتي تضم مانحين للجامعات وأعضاء في مجلس الأمناء، ضمنهم أصحاب شركات واستثمارات تدعم الاحتلال، ضمن شبكة علاقات معقدة للغاية.