أعلن في بكين 14 فصيلاً فلسطينياً يوم 23 يوليو/ تمّوز الجاري، وبعد مناقشات في مدار ثلاثة أيّام، اتفاق تشكيل حكومة مصالحة وطنية. يتزامن الإعلان، الذي يُمثّل التقاءً بين فتح وحركات المقاومة في ظرف استثنائي، مع بلورة مقترح مصري لتسوية الخلافات حول كلّ من محور فيلادلفي ومعبر رفح، يُمهّد لانسحاب إسرائيل منهما، وتُكرّر دولة الاحتلال من جانبها المطالب بشأن ضمانات أمنية تشمل إقامة حواجز إضافية (تموّلها واشنطن)، ونُظم مراقبة مُتطوّرة في الحدود بين سيناء وقطاع غزّة، التي يدّعي الاحتلال أنّها تتضمّن أنفاقاً لتهريب الأسلحة. في المقابل، استبقت القاهرة جولة مفاوضات، ضمّت في روما الأحد الرباعي (الوسيطَين مصر وقطر، وتلّ أبيب وواشنطن)، بتأكيد ضرورة الانسحاب من معبر رفح، وإزالة العوائق المفروضة على حركة الأفراد، والمساعدات إلى القطاع.
في هذا السياق المُعقّد، الذي يفتقد اليقين بسبب تعدّد الأطراف الفاعلة، وأيضاً ميل ميزان القوّة لمصلحة العدو المدعوم أميركياً، وتفتّت الصفّ الفلسطيني، وهشاشة الإسناد العربي، يجيء إعلان بكين مُتضمّناً معالجةَ قضايا أساسية مستقبلاً، نحو إدارة غزّة وقضايا الحدود، وتضمّنت بنودُ الإعلان الثمانية دعم المقاومة وإسنادها، والاتفاق على إدارة مشتركة عبر حكومة مؤقتة في الضفّة وغزّة، والتمهيد لإجراء انتخابات، ما يمثّل خطوات تساعد في مواجهة مُخطّطات إسرائيلية للسيطرة على القطاع مباشرةً أو عبر وكلائها، منها ما نشر حول اجتماع أبوظبي مع ممثّلين أمنيين لتل أبيب وواشنطن، وما يُنتج توتّراً أمنياً في القطاع ليس في صالح مصر. وفي المقابل، تأخّر تعليق القاهرة بشأن “إعلان بكين”، رغم كونه يتماسّ في بنوده مع اتفاقية الوفاق الوطني (مايو/ أيار 2011)، وأيضاً، اتفاق أكتوبر(2017) الذي وُقّع في القاهرة، وتضمّن حكومة وحدة تدير معبر رفح، واقتصرت ردّة الفعل على تغريدة وزير الخارجية بدر عبد العاطي بشأن ترحيب بـ”كافة الجهود الساعية للمصالحة”.
ويبدو أنّ القاهرة لم تكن ضلعاً في الترتيب للقاء الذي حضره أحد ممثليها، لكنّ الإعلان يتصل بجهود سابقة للمصالحة (مصرية وقطرية وجزائرية) تستثمرها وساطة الصين، التي تنمو باحثة عن دور فاعل في قضايا الشرق الأوسط يخدم مصالحها الاقتصادية أساساً، وتبرز مع روسيا حليفاً أمام الولايات المتّحدة، وهو ما يمكن أن يُفسِّر أيضاً ردّة الفعل المتحوّطة للحفاظ على العلاقات مع واشنطن، التي اتصل وزير خارجيتها بنظيره الصيني لنقاش الإعلان. بينما، وفي سياق التدخّلات الجديدة، وقُبيل استضافة وتنسيق اللقاء الرباعي، بادرت إيطاليا، والتقى مسؤولوها أخيراً كلاً من رئيس الوزراء الفلسطيني والرئيس الإسرائيلي، مُعلنة استعدادها لإرسال قوات حفظ سلام إلى القطاع (يتناغم مع مخطّط أميركي)، والمساهمة كذلك في الأشراف على معبر رفح ضمن دورٍ سابقٍ للاتحاد الأوروبي، مع زيادة المساعدات للقطاع.
وتُعدّ قضايا الحدود، ومعبر رفح، وضمانات أمنية تتعلّق بعودة النازحين من جنوب القطاع ووسطه إلى الشمال عبر آلية تفتيش بجانب الحدود مع مصر، قضايا أساسية للتفاوض، وتضغط تلّ أبيب بالتمركز في جنوب غزّة، سبقه تقسيم القطاع وفصله عن الحدود مع سيناء، وهذا مدعوم عسكرياً بأبراج مراقبة وسواتر رملية، ومنطقة عازلة تتمركز فيها، ضغطاً مزدوجاً على المقاومة والقاهرة، مدعوماً بإسناد سياسي، وزيارات بشكل استعراضي تؤكّد إسرائيل بها سيطرتها، وهي رسالة مفادها بأنّ تكتيكاً ضاغطاً ومُؤقّتاً باحتلال معبر رفح ومحور فيلادلفيا يمكن أن يستمر فترة أطول، وأنّ إنهاءه رهن باتفاق هدنة، أو استسلام “حماس”، كما يقول نتنياهو.
فلسطينياً، تتوافق على أهمية “إعلان بكين” الأطراف كلّها؛ حركات المقاومة، وسلطة فتح التي تأطر وجودها في القطاع مع محاولة إيجاد توافق على إدارة غزّة، ما يُقلّل فرص تنازع على السلطة، ويُخفّف عن “حماس” سلطةَ أمرٍ واقعٍ وحمولةَ مواجهة تداعيات العدوان بمفردها، وبينها سياسياً المسؤولية عمّا جرى خلال الحرب. وفي صعيد معالجة آثار العدوان، وبينها إعادة الإعمار (تحتاج 15 عاماً بتكلفة تتجاوز 40 مليار دولار حسب تقييم الأثر الصادر عن برنامج الأمم المتّحدة للبيئة)، هناك بند واحد يختصّ بالبنية التحية تصعب معالجته، سواء في مستوى المانحين أو في مستوى تنفيذه في ظلّ انقسام فلسطيني وقيادة منفردة أو في التعامل مع فتح، وهي خارج القطاع عملياً.
ويعد الإعلان ضرورياً في ظرف استثنائي، بعد السابع من أكتوبر (2023)، بينما جاء اتفاق الوفاق الوطني (2011) مع ثورات عربية، ما يعنى أنّ الأحداث الكبرى تفرض خيار المصالحة ضرورةً، وتستدعي إلى الواقع مفهوم الثورة الفلسطينية، ودعم المقاومة في مواجهة توحّش قوى استعمارية تشكّل حلفاً ضدّ الفلسطينيين، حلفاً يُهدّد شعوب المنطقة أيضاً، تتّضح بعض خطوطه في خطاب نتنياهو أمام الكونغرس، وينال من الرهانات على وقف العدوان في غزّة، وخفض التصعيد في الضفّة الغربية، ويتضمّن اقتحامات وسياسة الاعتقالات والقصف. وضمن التحديات، أنّ السلطة لم تُوقف ترصّدها للمقاومين بعد الإعلان، ليبقي وضع الضفّة بين سجن الاحتلال وحصار سلطة محمود عبّاس. ورغم ذلك، تحاول إسرائيل إضعاف السلطة، وغضبت من توجّهها إلى المصالحة، معتبرةً أنّ حماس تحجز مقعداً بعد الحرب. بينما تساهم عوامل أخرى في الدفع باتفاق هدنة في ساحة غزّة؛ استنزف جيش الاحتلال في أطول حرب يخوضها. ورغم ثقل الواقع في غزّة، والوضع الكارثي، لا يمكن الاستخفاف بخسائر العدو، عسكرياً واقتصادياً، التي تزيد الضغوط الداخلية إلى جانب ملفّ الأسرى، كما استخدم الاحتلال أدوات الضغط كلّها، بما فيها فائض التوحش بقصف خيام ومستشفيات، فدمّر ما يزيد على 85% منها، وهي قبل العدوان محدودة العدد، وأغلبها تنقصها الإمكانات العلاجية، وهذا الإجرام ضدّ المدنيين العزّل يسمّيه الاحتلال ضغطاً عسكرياً، فيطارد النازحين من رفح وخانيونس إلى دير البلح، ويستهدف خلال شهر خمس مدارس بدعوى أنّها تضمّ مُسلّحين ومراكز عمليات عسكرية، كما جريمته أخيراً في مدرسة خديجة في وسط القطاع.
يمثل إعلان بكين نقاط تفاهم بشأن معضلة حكم وإدارة القطاع إلى جانب تشغيل معبر رفح، وهذه نقاط إيجابية، رغم ما يعلنه نتنياهو من شروط تعجيزية، منها استسلام “حماس” وإبعادها عن شؤون القطاع، إضافة إلى تهديده بالبقاء في محور فيلادلفيا لما له من مزايا أمنية وسياسية، كما قال. وتظلّ احتمالات التصعيد في ساحتي اليمن ولبنان قائمة، بعد استهداف ميناء الحديدة في عملية اليد الطولى، التي اعتبرها رئيس الكنيست، مغرّداً باللغة العربية “رسالة للشرق الأوسط كلّه”. الرسالة نفسها أعادها وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت، قائلاً: “إنّ النيران المشتعلة في الحديدة يمكن رؤيتها في جميع أنحاء الشرق الأوسط”، مع التهديد بأن تصل إلى الليطاني. وهذا التوجّه، محلّ اتفاق المستوى السياسي والأمني، ودالّ على سياسة الردع خارج غزّة، بما يمثلّ تحدّياً للرهان على وقف توسّع الحرب إقليمياً، خصوصاً في استمرار الهجمات على اليمن، وتوعّد تلّ أبيب بالردّ بالهجوم على لبنان، بعد عملية مجدل شمس (في الجولان)، فرغم نفي حزب الله مسؤوليته عنها، هدّد نتنياهو بتدفيعه الثمن، ولكنّه لم يكن قبلها في حاجة للحادث لتبرير مُتطلبات استراتيجية الردع التي أعلنها في خطاب الكونغرس، لكن ما هو واضح، ويتكرّر، أنّ جولات التفاوض لم تعد مجالاً للتفاؤل، بقدر التخوّف من ضغط مُكرّر يتزامن معها.